أهم الأحداث السيرية التي وقعت في جمادى الأولى

جمادى الأولى وجمادى الثانية هما وحدهما المؤنثان من الشهور العربية،
وقد شهد الشهران أحداثا هامة عبر التاريخ، وفي ما يلي نذكر أبرز ما جرى في جمادى الأولى من تلك الأحداث، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

غزوة العشيرة

في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة النبوية، وقعت غزوة العشيرة، وللعالم الجليل ببها ولد أحمد العاقل، في نظمه أحداث السنين، ضمن حديثه عن أحداث السنة الهجرية الثانية:
وقينقاعَ والعشيرةَ اعددا
        وابنُ الزبير الندب فيها وُلدا

والعشيرة ماء لبني مدلج بين المدينة وينبع، ويروى بالسين المعجمة، وبالمهملة، وبالمد، وبهاء التأنيث، كما أنه يذكر ويؤنث، وقد ضبطه القاضي سيلوم في نظمه قرة العينين، فقال، في حديثه عن هذه الغزوة:
وسينَها اقرأ مهملا أو معجما
        بمد أولا لبني مدلجَ ما
بين المدينة وينبعَ يُرى
        أنّثه بعض وبعض ذكَّرا

وحاصل هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على رأس 150 من المهاجرين في طلب عير لقريش متجهة إلى الشام، وذلك في إطار سياسة الرد على اعتداءاتهم على المسلمين، والتي شملت الجانب الاقتصادي، وقد استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخوه من الرضاعة، وابن عمته برّة بنت عبد المطلب بن هاشم، وأحد السابقين إلى الإسلام.

فلما وصل صلى الله عليه وسلم العشيرة، وجد أن العير قد فاتتهم، حيث مرت قبل قدومهم بأيام، وكانت عودةُ هذه العير من الشام إلى مكة بعد ذلك بمدة، سببا في وقوع غزوة بدر الكبرى.

لم يقع في هذه الغزوة قتال، وجرت فيها معاهدة سلام بين بني مدلج وبين المسلمين، وكانت تلك المعاهدات التي يُبرم الرسول صلى الله عليه وسلم مع قبائل المنطقة، من بين أهمِّ نتائج الغزوات التي يخرج فيها بنفسه صلى الله عليه وسلم، والسرايا التي يبعث فيها أصحابَه الكرام، وفي هذه الغزوة أيضا كنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بأبي تراب.

سرية زيد بن حارثة إلى العيص

وفي جمادى الأولى من سادسة سني الهجرة النبوية، كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة، رضي الله عنه، يقود 170 من الصحابة الكرام، لاعتراض عير لقريش راجعةٍ من الشام، بقيادة أبي العاص بن الربيع، زوجِ زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان هدفُ السرية - شأنها في ذلك شأن كثير من السرايا التي يبعثها صلى الله عليه وسلم - هو السعي إلى التضييق الاقتصادي على قريش ردا على ما فعلوه بالمهاجرين، وكذلك عقد المعاهدات مع قبائل المنطقة، ومعرفة الطرق واكتشافها وغير ذلك مما لا غنى عنه لمن هو بصدد بناء دولة جديدة في بيئة كتلك.

اجتهد زيد بن حارثة وأصحابه حتى سيطروا على العير، وآبوا بها إلى المدينة، فدخل أبو العاص على زوجته زينب مستجيرا، فخرجت - والنبي والصحابة في المسجد لصلاة الفجر - منادية في الناس: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا نعم، فقال: أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من هذا، ثم انصرف فدخل على زينب وقال لها: قد أجرنا من أجرت، ثم دخلت زينب عليه صلى الله عليه وسلم، فسألته أن يرد العير على أبي العاص بن الربيع فأجابها إلى ذلك وأمرها أن تكرم مثوى أبي العاص، وأن لا تدعه  يخلص إليها كزوجة، لأنها لا تحل له، وإلى ذلك أشار البدوي رحمه الله، حين قال:
أوصى به من حيث الاكرام ابنته
        لكن نهاها أن تكون بعلته

ثم بعث صلى الله عليه وسلم إلى زيد بنِ حارثة ورفقائه في السرية، قائلا ما معناه: إن هذا الرجلَ منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالًا فإن أحسنتم ورددتم عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به، فقالوا جميعا: بل نرد عليه يارسول الله.

وقد نظم العالم الجليل گراي ولد أحمد يوره، ما قدمنا من أحداث هذه السرية ذاكرا تاريخها، بقوله في نظم السرايا:
وعام ست في جمادى الأولى
        على الذي عنهم أتى منقولا
سرية الحِب ومولى المصطفى
        زيد وكم أطفأ شركا فانطفى
للعيص في سبعين زيدت بمائه
        أصابعُ العلى إليهم مومئه
يعترضُ العيرَ التي قد قد قادها
        مباركٌ به حوت مرادها
وهو أبو العاص الفتى نجلُ الربيع
        أمينهم إذ يشتري وإذ يبيع
فأخذوا العير وآبوا سالمين
        إلى مدينة النبي غانمين
ودخل الصهر على بنت النبي
        زوجتِه ذاتِ البهاء زينب
قد جاءها حيران مستجيرا
        وإذ أجارت الفتى أُجيرا
وقال خير الخلق من له البُشر
        في ذاك قولا عنه يعجزُ البَشر
ومنه إن شئتم فردوا ماله
        فامتثلوا حينئذ ما قاله

ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة وأدى جميعَ الودائع إلى أهلها، وأسلم ثم هاجر إلى المدينة فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول، وقيل بعقد جديد، وهو ما أشار إليه في نظم الغزوات، بقوله:
فردها إليه خير مرسل
        بالعقد الاول على القول الجلي
 
وكان بعض المسلمين قالوا لأبي العاص: يا أبا العاص إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل لك أن تُسلمَ فتغنم ما معك من أموال أهل مكة؟ فقال: بئس ما أمرتموني؛ أن أفتتح ديني بغدرة، ثم ذهب أبو العاص إلى أهل مكة فأدى كل ذي حقّ حقَّه، ثم قال: يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه؟ هل وفيت ذمتي؟ فقالوا اللهم نعم، فقد وجدناك وفيًا كريمًا، فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا خشية أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم.

وإلى هذا أشار أحمد البدوي بقوله في نظم الغزوات، مستطردا قصة هذه السرية عند ذكر أبي العاص ضمن حديثه عن أسرى بدر، بقوله:
وسئل الإيمانَ كي يحوزا
        مال قريش وبه يفوزا
فهاب أن يبدأ بالخيانه
        إيمانه ويدع الأمانه
فرُدَّ مالُه إليه أجمع
        تلك الصهارة بها يُستشفَع

غزوة ذات الرقاع

وفي جمادى الأولى من السنة الهجرية السادسة، على المشهور عند أصحاب السير، كانت غزوة ذات الرقاع، وحاصلها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع باجتماع بني محارب وبني ثعلبة وأنمار الغطفانيين، فأسرع بالخروج نحوهم، وهو يقود 400 من أصحابه رضوان الله عليهم، وقيل بل 700.

وقد استعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا ذر الغفاري، أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما، ثم سار وتوغل في بلاد العدو، حتى وصل إلى موضع يسمى نخلا، وهو يبعد يومين من المدينة المنورة، وقد لقي صلى الله عليه وسلم هناك جمعا من غطفان فتوقفوا ولم يكن بينهم قتال، غير أنه صلى بهم يومئذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوف.
 
ويرى بعض أصحاب السير، أن ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الرجل المسمى دعثورا أو غورث، كان في هذه الغزوة، وأن الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) إنما نزلت في هذه الغزوة، ويرى بعضهم تعددَ الرجلين، وقد ذكرنا ضمن أحداث شهر ربيع الأول، هذا الرأي، وكذلك الرأي القائل بأنها نزلت في غزوة بني النضير، مع أن الآية قد تنزل في مسألة، ثم تنزل مرة أخرى في مسألة أخرى، كما أشار إلى ذلك القاضي سيلوم ولد المزروف، حفظه الله، بقوله:
قد تنزل الآية في الشيء وفي
        شيء بُعَيد ذا نزولُها يفي

غزوة مؤتة

وفي جمادى الأولى من سادس أعوام الهجرة النبوية وقعت غزوة مؤتة، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي، رضي الله عنه، بكتاب إلى عظيم بصرى، يدعوه فيه إلى الإسلام، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو أحد عمال قيصر بالشام، فأوثقه وضرب عنقه، ولم يُقتل من مبعوثي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته غيره، وكان قتْل الرسل بمثابة إعلان الحرب.

وقد ساق القاضي محمذن الملقب سيلوم ولد المزروف هذه الحادثة نظما، فقال في بداية الحديث عن مؤتة، ضمن نظمه قرة العينين من غزوات سيد الكونين:
بعث طه الحارثَ المنميا
       إلى عُمير الفتى الأزديا
لملك الروم بأرض الشام
        فسار يحملُ كتاب السامي
حتى عدا على علي الشان
        هذا سليلُ عمرو الغساني
وهو المسمى شرحبيلَ فقتل
        مبعوثَ طه الحارثَ الشهمَ البطل
ولم يكن قُتل للرسول
        حياتَه سواه من رسول

فلما وصل خبرُ الجريمة المنكرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا، وأمر بتجهيز جيش والاستعداد لقتال الروم، ردا على قتلهم مبعوثَه صلى الله عليه وسلم، وأخذًا بثأره، فخرج جيش المسلمين من المدينة متوجها إلى الشام، وكان قوامه 3000 من أصحابه، ولم يُسيِّر صلى الله عليه وسلم جيشا بهذا الحجم قبل هذه المرة، ثم أمرهم أن يذهبوا إلى حيث قُتل مبعوثُه الحارث بن عمير، ثم يعرضوا الإسلام على من هناك، فإن أسلموا فقد حقنوا دماءهم وأموالهم، وإلا فليقاتلوهم ثأرا للحارث، وجزاء على فعلتهم المنكرة.

وأمّر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على الجيش، وقال لهم: إن قُتل زيد فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل جعفر فالأمير عبد الله بن رواحة، وخلال توديعه صلى الله عليه وسلم للجيش جاءت وصيته التي ورد في إحدى رواياتها قوله: اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فافلقوها بالسيوف، لا تقتلن امرأة ولا صغيرا ضرعا ولا كبيرا فانيا ولا تقربن نخلا ولا تقطعن شجرا ولا تهدمن بيتا.

فلما كان المسلمون ببعض الطريق بلغتهم أخبار تفيد بأن هرقل خرج يعترض جيشهم، وهو يقود جيشا قوامه 100 ألف مقاتل، ومعها مثلها من قبائل العرب الموالية لقيصر؛ وهي بنو لخم، وبلي، وجذام، وبلقين، وبهراء، فتشاور الصحابة بينهم في شأن الواقع المستجد، وقد اقترح بعضهم أن يكتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة الأمر، ليرسلَ إليهم مددا أو يأمرهم بما يرى، ولكن عبد الله بن رواحة اعترض على هذا الرأي وشجعهم على المُضي قدما نحو العدو.

ثم سار جيش المسلمين حتى التقوا مع جيوش هرقل بمؤتة، واشتبك الفريقان غير المكافئين من حيث العدد، وسقط زيد شهيدا، فأخذ جعفر اللواء فسقط شهيدا، ثم أخذه عبد الله بن رواحة الذي سقط شهيدا هو الآخر، ليأخذه رجل من المسلمين وينادي: أيها الناس اصطلحوا على رجل منكم يحمل اللواء، فقالوا: أنت فعرض عن ذلك، واصطلحوا على خالد بن الوليد، وكان الله أرى رسوله صلى الله عليه وسلم، جميعَ ما يجري في المعركة، وكان الرسول ينقل الوقائع مباشرة إلى أهل المدينة.

وقد نظم أحمد البدوي رحمه الله تعالى أهم ما جرى في هذه الغزوة بكل اختصار، فقال:
ثم إلى الروم النبي استنفرا
        بمؤتة جيشا عليه أمرا
زيد بن حارثة ثم جعفرا
        فابن رواحة  ولأيا انبرى
ورُفعت للهاشمي المعركه
        فعاين الذي أتوا وأدركه

 لما حاز خالد بن الوليد اللواء وضع خطة ذكية للانسحاب دون خسائر، فيقال إنه أحدث ضجة بالليل حتى يظن العدو أن مددا جديدا وصل المسلمين، فلما أصبح جعل الميمنة ميسرة والعكس، وجدد الرايات، فأيقن العدو أن مددا وصل المسلمين، وعندها استطاع المسلمون أن ينسحبوا بأقل خسارة، حيث لم يفقد المسلمون يومئذ إلا اثني عشر رجلا، من ثلاثة آلاف تواجه أضعافها سبعين مرة، يقول القاضي سيلوم، في نظمه المتقدم:
واستشهدت من الكرام النجبا
        يومئذ رمزُ يب وا عجبا
جيمُ ألوف تلتقي بأكثرا
من مائتي ألف ويجري ما جرى

تلكم أهم الأحداث التي وقعت في جمادى الأولى، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تجنبنا إيراد أحداث ذكر بعض أصحاب السيّر أنها كانت في جمادى الأولى، ولكن الذي تم ترجيحه أنها كانت في غيره، وأن بعضها كان في شهر جمادى الثانية، وعليه فستجدونه - إن شاء الله - غرة الشهر المقبل، على موقع الوزارة وصفحتها على الفيس بوك.

15 November 2023